فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فلا تُطِعِ الْمُكذِّبِين (8)}
تفريع على جملة {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} [القلم: 7] إلى آخرها، باعتبار ما تضمنته من أنه على الهدى، وأن الجانب الآخر في ضلال السبيل، فإن ذلك يقتضي المشادة معهم وأن لا يلين لهم في شيء، فإن أذاهم إياه آل إلى محاربة الحق والهدى، وتصلّب فيما هم عليه من الضلال عن سبيل الله فلا يستأهلون به لِينا ولكن يستأهلون إغلاظا.
رُوي عن الكلبي وزيد بن أسلم والحسن بألفاظ متقاربة تحوم حول أن المشركين ودّوا أن يمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن مجاهرتهم بالتضليل والتحقير فيمسكوا عن أذاه، ويصانع بعضُهم بعضا فنهاه الله عن إجابتهم لما ودُّوا.
ومعنى {ودُّوا}: أحبوا.
وليس المراد أنهم ودُّوا ذلك في نفوسهم فأطْلع الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم لعدم مناسبته لقوله: {فلا تطع المكذبين}
وورد في كتب السيرة أن المشركين تقدموا للنبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا العرض ووسطوا في ذلك عمه أبا طالب وعتبة بن ربيعة.
فينتظم من هذا أن قوله: {فلا تطع المكذبين} نهي عن إجابتهم إلى شيء عرضوه عليه عندما قرعهم بأول هذه السورة وبخاصة من وقْع معنى التعريض البديع الممزوج بالوعيد بسوء المستقبل من قوله: {فستبصُر ويبصرون بأيكم المفتون} إلى قوله: {بالمهتدين} [القلم: 5 7] فلعلهم تحدثوا أو أوعزُوا إلى من يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو صارحوه بأنفسهم بأنه إن ساءه قولهم فيه {إنه لمجنون} [القلم: 51] فقد ساءهم منه تحقيرهم بصفات الذم وتحقير أصنامهم وآبائهم من جانب الكفر فإن أمسك عن ذلك أمسكوا عن أذاه وكان الحال صلحا بينهم ويترك كلّ فريق فريقا وما عبده.
والطاعة: قبول ما يُبتغى عمله، ووقوع فعل {تطع} في حيز النهي يقتضي النهي عن جنس الطاعة لهم فيعم كل إجابة لطلب منهم، فالطاعة مراد بها هنا المصالحة والملاينة كما في قوله تعالى: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا} [الفرقان: 52]، أي لا تلن لهم.
واختير تعريفهم بوصف المكذبين دون غيره من طرق التعريف لأنه بمنزلة الموصول في الإِيماء إلى وجه بناءِ الحكم وهو حكم النهي عن طاعتهم فإن النهي عن طاعتهم لأنهم كذبوا رسالته.
ومن هنا يتضح أن جملة {ودُّوا لو تُدهِنُ فيدهنون} بيان لمتعلق الطاعة المنهي عنها ولذلك فصلت ولم تعطف.
وفعل {تدهن} مشتق من الإدهان وهو الملاينة والمصانعة، وحقيقة هذا الفعل أن يجعل لشيء دهنا إما لتليينه وإما لتلوينه، ومن هاذين المعنيين تفرعت معاني الإِدهان كما أشار إليه الراغب، أي ودّوا منك أن تدهن لهم فيدهنوا لك، أي لو تُواجههم بحسن المعاملة فيواجهونك بمثلها.
والفاء في {فيدهنون} للعطف، والتسبب عن جملة {لو تدهن} جوابا لمعنى التمني المدلول عليه بفعل {ودُّوا} بل قصد بيان سبب ودادتهم ذلك، فلذلك لم ينصب الفعل بعد الفاء بإضمار (أنْ) لأن فاء المتسبب كافية في إفادة ذلك، فالكلام بتقدير مبتدأ محذوف تقديره: فهم يدهنون.
وسلك هذا الأسلوب ليكون الاسم المقدر مقدما على الخبر الفعلي فيفيد معنى الاختصاص، أي فالإِدهان منهم لا منك، أي فاترك الإِدهان لهم ولا تتخلق أنت به، وهذه طريقة في الاستعمال إذا أريد بالترتبات أنه ليس تعليق جواب كقوله تعالى: {فمن يؤمنْ بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا} [الجنّ: 13]، أي فهو لا يخاف بخسا ولا رهقا.
وحرف {لو} يحتمل أن يكون شرطيا ويكون فعل {تدهن} شرطا، وأن يكون جوابُ الشرط محذوفا ويكون التقدير: لو تدهن لحصل لهم ما يودون.
ويحتمل أن يكون {لو} حرفا مصدريا على رأي طائفة من علماء العربية أن {لو} يأتي حرفا مصدريا مثل (أنْ) فقد قال بذلك الفراء والفارسي والتبريزي وابن مالك فيكون التقدير: ودوا إدهانك.
ومفعول {ودُّوا} محذوف دل عليه {لو تدهن}، أو هو المصدر بناء على أن {لو} تقع حرفا مصدريا، وتقدم في قوله تعالى: {يودُّ أحدهم لو يُعمّر ألف سنة} في سورة البقرة (96).
وقد يفيد موقع الفاء تعليلا لمودتهم منه أن يدهن، أي ودوا ذلك منك لأنهم مدهنون، وصاحب النية السيئة يود أن يكون الناس مثله.
{ولا تُطِعْ كُلّ حلّافٍ مهِينٍ (10)}
إعادة فعل النهي عن الطاعة لمن هذه صفاتهم للاهتمام بهذا الأدب فلم يُكتف بدخول أصحاب هذه الأوصاف في عموم المكذبين، ولا بتخصيصهم بالذكر بمجرد عطف الخاص على العام بأن يقال: ولا كلّ خلاف، بل جيء في جانبهم بصيغة نهي أخرى مماثلة للأولى.
وليفيد تسليط الوعيد الخاص وهو في مضمون قوله: {سنسِمُهُ على الخرطوم} [القلم: 16] على أصحاب هذه الصفات الخاصة زيادة على وعيد المكذبين.
وقريب منه قول الحارث بن همام الشيباني:
أيا ابن زيّابة إِنْ تلْقنِي ** لا تلْقنِي في النعم العازب

وتلْقنِي يشْتدُّ بي أجرد ** مُستقدِمُ البِرْكة كالراكب

فلم يكتف بعطفٍ: بـ (بل) أو (لكنْ) بأن يقول: بل تلقني يشتد بي أجرد، أو لكن تلقني يشتد بي أجرد، وعدل عن ذلك فأعاد فعل (تلقني).
وكلمة {كلّ} موضوعة لإفادة الشمول والإِحاطة لأفراد الاسم الذي تضاف هي إليه، فهي هنا تفيد النهي العام عن طاعة كل فرد من أفراد أصحاب هذه الصفات التي أضيف إليها {كلّ} بالمباشرة وبالنعوت.
وقد وقعت كلمة {كلّ} معمولة للفعل الداخلة عليه أداة النهي ولا يفهم منه أن النهي منصب إلى طاعة من اجتمعت فيه هذه الصفات بحيث لو أطاع بعض أصحاب هذه الصفات لم يكن مخالفا للنهي إذ لا يخطر ذلك بالبال ولا يجري على أساليب الاستعمال، بل المراد النهي عن طاعة كل موصوف بخصلة من هذه الخصال بلْه من اجتمع له عِدّةٌ منها.
وفي هذا ما يبطل ما أصّله الشيخ عبد القاهر في (دلائل الإِعجاز) من الفرق بين أن تقع {كلّ} في حيز النفي، أي أو النهي فتفيد ثبوت الفعل أو الوصف لبعض مما أضيفت إليه {كلّ} إن كانت {كلّ} مسندا إليها، أو تفيد تعلق الفعل أو الوصف ببعض ما أضيفت إليه {كل} إن كانت معمولة للمنفيِّ أو المنهيّ عنه، وبين أن تقع {كلّ} في غير حيّزِ النفي، وجعل رفْع لفظ (كلُّه) في قول أبي النجم:
قد أصْبحتْ أُم الخيار تدّعي ** عليّ ذنبا كلُّه لم أصْنع

متعينا، لأنه لو نصبه لأفاد تنصله من أن يكون صنع مجموع ما ادعته عليه من الذنوب، فيصدق بأنه صنع بعض تلك الذنوب وهو لم يقصد ذلك كما صرح بإبطاله العلامةُ التفتازاني في (المطول)، واستشهد للإِبطال بقوله تعالى: {والله لا يُحب كلّ كفار أثيم} [البقرة: 276] وقوله: {ولا تطع كل حلاف مهين}.
وأجريت على المنهي عن الإِطاعة بهذه الصفات الذميمة، لأن أصحابها ليسوا أهلا لأن يطاعوا إذ لا ثقة بهم ولا يأمرون إلاّ بسوء.
قال جمع من المفسرين المراد بالحلاّف المهين: الوليد بن المغيرة، وقال بعضهم: الأخنس بن شريق، وقال آخرون: الأسودُ بن عبد يغوث، ومن المفسرين من قال المراد: أبو جهل، وإنما عنوا أن المراد التعريض بواحد من هؤلاء، وإلاّ فإن لفظ {كلّ} المفيد للعموم لا يسمح بأن يراد النهي عن واحد معين، أما هؤلاء فلعل أربعتهم اشتركوا في معظم هذه الأوصاف فهم ممن أريد بالنهي عن إطاعته ومن كان على شاكلتهم من أمثالهم.
وليس المراد من جمع هذه الخلال بل من كانت له واحدة منها، والصفة الكبيرة منها هي التكذيب بالقرآن التي خُتم بها قوله: {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} [القلم: 15]، لكن الذي قال في القرآن إنه {أساطير الأولين} [القلم: 15] هو الوليد بن المغيرة، فهو الذي اختلق هذا البهتان في قصة معلومة، فلما تلقف الآخرون منه هذا البهتان وأُعجبوا به أخذوا يقولونه فكان جميعهم ممن يقوله ولذلك أسند الله إليهم هذا القول في آية: {وقالوا أساطير الأولين} [الفرقان: 5].
وذُكرت عشر خلال من مذامّهم التي تخلقوا بها:
الأولى: {حلاّف}، والحلاف: المكثر من الأيْمان على وُعودِه وأخباره، وأحسب أنه أريد به الكناية عن عدم المبالاة بالكذب وبالأيمان الفاجرة فجعلت صيغة المبالغة كناية عن تعمد الحنث، وإلاّ لم يكن ذمه بهذه المثابة، ومن المفسرين من جعل {مهين} قيدا ل {حلافٍ} على جعْل النهي عن طاعة صاحب الوصفين مجتمعين.
هذه خصلة ثانية وليست قيدا لصفة {حلاّف}.
والمهين: بفتح الميم فعيل من مهُن بمعنى حقُر وذلّ، فهو صفة مشبهة، وفعله مهُن بضم الهاء، وميمه أصلية وياؤه زائدة، وهو فعيل بمعنى فاعل، أي لا تطع الفاجر الحقير.
وقد يكون {مهين} هنا بمعنى ضعيف الرأي والتمييز، وكل ذلك من المهانة.
و {مهين}: نعت ل {حلاف}، وكذلك بقية الصفات إلى {زنيم} [القلم: 13] فهو نعت مستقل، وبعضهم جعله قيدا ل {حلاّف} وفسر المهين بالكذاب أي في حلفه.
{همّازٍ مشّاءٍ بِنمِيمٍ (11)}
الهمّاز كثير الهمزة.
وأصل الهمز: الطعن بعود أو يد، وأطلق على الأذى بالقول في الغيبة على وجه الاستعارة وشاع ذلك حتى صار كالحقيقة وفي التنزيل {ويل لكلّ هُمزة} [الهمزة: 1].
وصيغة المبالغة راجعة إلى قوة الصفة، فإذا كان أذى شديدا فصاحبه {همّاز} وإذا تكرر الأذى فصاحبه {همّاز}.
المشاء بالنميم: الذي ينِمّ بين الناس، ووصفه بالمشّاء للمبالغة.
والقول في هذه المبالغة مثل القول في {همّازهمّازٍ مّشّاءِ} وهذه رابعة المذامّ.
والمشي: استعارة لتشويه حاله بأنه يتجشم المشقة لأجل النميمة مثل ذِكر السعي في قوله تعالى: {ويسعوْن في الأرض فسادا} [المائدة: 64]، ذلك أن أسماء الأشياء المحسوسة أشدّ وقعا في تصوّر السامع من أسماء المعقولات، فذِكر المشي بالنميمة فيه تصوير لحال النمّام، ألا ترى أن قولك: قُطِع رأسُه أوقعُ في النفس من قولك: قُتِل، ويدل لذلك أنه وقع مثله في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وأمّا الآخرُ فكان يمشي بالنميمة».
والنميم: اسم مرادف للنميمة، وقيل: النميم جمع نميمة، أي اسمُ جمع لنميمة إذا أريد بها الواحدة وصيرورتُها اسما.
{منّاعٍ لِلْخيْرِ مُعْتدٍ أثِيمٍ (12)}
هذه مذمة خامسة.
{منّاع}: شديد المنع.
والخير: المال، أي شحيح، والخير من أسماء المال قال تعالى: {وإِنه لحُب الخير لشديد} [العاديات: 8] وقال: {إنْ ترك خيْرا} [البقرة: 180]، وقد روعي تماثل الصيغة في هذه الصفات الأربع وهي {حلافٍ} {همّازٍ}، {مشّاءٍ}، {منّاعٍ} وهو ضرب من محسن الموازنة.
والمراد بمنع الخير: منعه عمن أسلم من ذويهم وأقاربهم، يقول الواحد منهم لمن أسلم من أهله أو مواليه: من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا، وهذه شنشنة عرفوا بها من بعد، قال الله تعالى في شأن المنافقين {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا} [المنافقون: 7].
وأيضا فمِن منععِ الخير ما كان أهل الجاهلية يعطون العطاء للفخر والسمعة فلا يعطون الضعفاء وإنما يعطون في المجامع والقبائل قال تعالى: {ولا يحُضّون على طعام المسكين} [الفجر: 18].
قيل: كان الوليد بن المغيرة ينفق في الحج في كل حجة عشرين ألفا يطعم أهل مِنى، ولا يعطي المسكين درهما واحدا.
هما مذمتان سادسة وسابعة قرن بينهما لمناسبة الخصوص والعموم.
والاعتداء: مبالغة في العُدوان فالافتعال فيه للدلالة على الشدة.
والأثيم: كثير الإِثم، وهو فعيل من أمثلة المبالغة قال تعالى: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم} [الدخان: 4344].
والمراد بالإِثم هنا ما يعد خطيئة وفسادا عند أهل العقول والمروءة وفي الأديان المعروفة.
قال أبو حيان: وجاءت هذه الصفات صفات مبالغة ونوسب فيها فجاء {حلاّف} [القلم: 10] وبعده {مهين} [القلم: 10] لأن النون فيها تواخخِ مع الميم، أي ميم {أثيم}، ثم جاء {همّاز مشّاء} [القلم: 11] بصفتي المبالغة، ثم جاء {منّاع للخير معتد أثيم} صفات مبالغة اهـ.
يريد أن الافتعال في {معتدِ} للمبالغة.
{عُتُلٍّ بعْد ذلِك زنِيمٍ (13)}
ثامنة وتاسعة.
والعُتُل: بضمتين وتشديد اللام اسم وليس بوصف لكنه يتضمن معنى صفةٍ لأنه مشتق من العتْل بفتح فسكون، وهو الدفع بقوة قال تعالى: {خذوه فاعْتلُوه إلى سواء الجحيم} [الدخان: 47] ولم يسمع (عاتل).
ومما يدل على أنه من قبيل الأسماء دون الأوصاف مركب من وصفين في أحوال مختلفة أو من مركب أوصاف في حالين مختلفين.
وفسر العُتل بالشديد الخِلقة الرحيب الجوف، وبالأكول الشروب، وبالغشوم الظلوم، وبالكثير اللّحم المختال، روى الماوردي عن شهر بن حوشب هذا التفسير عن ابن مسعود وعن شداد بن أوس وعن عبد الرحمان بن غنْم، يزيدُ بعضهم على بعض عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند غير قوي، وهو على هذا التفسير إتْباع لصفة {منّاع للخير} [القلم: 12] أي يمنع السائل ويدفعه ويُغلظ له على نحو قوله تعالى: {فذلك الذي يدعُّ اليتيم} [الماعون: 2].
ومعنى {بعد ذلك} علاوة على ما عُدّد له من الأوصاف هو سيّئ الخِلقة سيّئ المعاملة، فالبعدية هنا بعدية في الارتقاء في درجات التوصيف المذكور، فمفادها مفاد التراخي الرتبي كقوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} [النازعات: 30] على أحد الوجهين فيه.
وعلى تفسير العُتل بالشديد الخِلقة والرحيب الجوف يكون وجه ذكره أن قباحة ذاته مكملة لمعائبه لأن العيب المشاهد أجلب إلى الاشمئزاز وأوغل في النفرة من صاحبه.
وموقع {بعد ذلك} موقع الجملة المعترضة، والظرفُ خبر لمحذوف تقديره: هو بعد ذلك.
ويجوز اتصال {بعد ذلك} بقوله: {زنيم} على أنه حال من {زنيم}.
والزنيم: اللصيق وهو من يكون دعيا في قومه ليس من صريح نسبهم: إِما بمغمز في نسبه، وإِما بكونه حليفا في قوم أو مولى، مأخوذ من الزنمة بالتحريك وهي قطعة من أذن البعير لا تنزع بل تبقى معلقة بالأذن علامة على كرم البعير.
والزنمتان بضعتان في رقاب المعز.
قيل أريد بالزنيم الوليد بن المغيرة لأنه ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة من مولده.
وقيل أريد الأخنس بن شريق لأنه كان من ثقيف فحالف قريشا وحلّ بينهم، وأيّا ما كان المراد به فإن المراد به خاص فدخوله في المعطوف على ما أضيف إليه {كل} [القلم: 10] إنما هو على فرض وجود أمثال هذا الخاص وهو ضرب من الرمز كما يقال: ما بال أقوام يعملون كذا، ويُراد واحد معين.
قال الخطيم التميمي جاهلي، أو حسان بن ثابت:
زنيم تداعاه الرجال زيادة ** كما زيد في عرض الأديم الأكارع

ويطلق الزنيم على من في نسبه غضاضة من قِبل الأمهات، ومن ذلك قول حسان في هجاء أبي سفيان بن حرب، قبل إسلام أبي سفيان، وكانت أمه مولاة خلافا لسائر بني هاشم إذ كانت أمهاتهم من صريح نسب قومهن:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم ** كما نِيط خلْف الراكب القدحُ الفرْدُ

وإنّ سنام المجد من آل هاشم ** بنُو بنت مخزوم ووالدُك العبْد

يريد جدّه أبا أمه وهو موهب غلام عبد مناف وكانت أم أبي سفيان سُمية بنت موهب هذا.
والقول في هذا الإِطلاق والمرادِ به مماثل للقول في الإِطلاق الذي قبله.
{أنْ كان ذا مالٍ وبنِين (14)}
يتعلق قوله: {أن كان ذا مال وبنين} بفعل {قال} بتقدير لام التعليل محذوفة قبل {أنْ}، وهو حذف مطرد تعلق بذلك الفعل ظرف هو {إذا تتلى} ومجرور هو {أن كان ذا مال}، ولا بدع في ذلك وليست {إذا} بشرطية هنا فلا يهولنك قولهم: إن (ما) بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، على أنها لو جعلت شرطية لما امتنع ذلك لأنهم يتوسعون في المجرورات ما لا يتوسعون في غيرها وهذا مجرور باللام المحذوفة.
والمراد: كل من كان ذا مال وبنين من كبراء المشركين كقوله تعالى: {وذرْني والمكذبين أولِي النعمة} [المزمل: 11].
وقيل: أريد به الوليد بن المغيرة إذ هو الذي اختلق أن يقول في القرآن {أساطير الأولين} وقد علمت ذلك عند تفسير قوله تعالى: {ولا تطِعْ كلّ حلاّف مهين} [القلم: 10].
وكان الوليد بن المغيرة ذا سعة في المال كثير الأبناء وهو المعنيُّ بقوله تعالى: {ذرني ومن خلقتُ وحيدا وجعلتُ له مالا ممدودا وبنين شهودا} إلى قوله: {إن هذا إلاّ قول البشر} [المدثر: 1125].
والوجه أن لا يختص هذا الوصف به.
وأن يكون تعريضا به.
والأساطير: جمع أسطورة وهي القصة، والأسطورة كلمة معربة عن الرومية كما تقدم عند قوله تعالى: {يقول الذين كفروا إن هذا إلاّ أساطير الأولين} في الأنعام (25) وقوله: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطير الأولين} في سورة النحل (24).
وختمت الأوصاف المحذر عن إطاعة أصحابها بوصف التكذيب ليُرجع إلى صفة التكذيب التي انتُقل الأسلوب منها من قوله: {فلا تطع المكذبين} [القلم: 8].
وقرأ الجمهور {أنْ كان ذا مال} بهمزة واحدة على أنه خبر.
وقرأه حمزة وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بهمزتين مخففتين فهو استفهام إنكاري.
وقرأه ابن عامر بهمزة ومدّة بجعل الهمزة الثانية ألفا للتخفيف.
{سنسِمُهُ على الْخُرْطُومِ (16)}
استئناف بياني جوابا لسؤال ينشأ عن الصفات الذميمة التي وصفوا بها أن يسأل السامع: ما جزاء أصحاب هذه الأوصاف من الله على ما أتوه من القبائح والاجتراء على ربِّهم.
وضمير المفرد الغائب في قوله: {سنسمه} عائد إلى كُل حلاّف باعتبار لفظه وإن كان معناه الجماعات فإفراد ضميره كإفراد ما أضيف إليه {كلّ} [القلم: 10] من الصفات التي جاءت بحالة الإِفراد.
والمعنى: سنسم كل هؤلاء على الخراطيم، وقد علمت آنفا أن ذلك تعريض بمعيّن بصفة قوله: {أساطير الأولين} [القلم: 15] وبأنه ذو مال وبنين.
و {الخرطوم}: أريد به الأنف.
والظاهر أن حقيقة الخرطوم الأنف المستطيل كأنف الفيل والخنزير ونحوهما من كل أنف مستطيل.
وقد خلط أصحاب اللّغة في ذكر معانيه خلطا لم تتبين منه حقيقته من مجازه.
وذكر الزمخشري في (الأساس) معانيه المجازية ولم يذكر معناه الحقيقي، وانبهم كلامه في (الكشاف) إلاّ أن قوله فيه: وفي لفظ {الخُرطوم} استخفاف وإهانة، يقتضي أن إطلاقه على أنف الإِنسان مجاز مرسل، وجزم ابن عطية: أن حقيقة الخرطوم مخْطممِ السبع أي أنف مثل الأسد، فإطلاق الخرطوم على أنف الإِنسان هنا استعارة كإِطلاق المِشفر وهو شفة البعير على شفة الإِنسان في قول الفرزدق:
فلو كنت ضبيّا عرفت قرابتي ** ولكنّ زنجيّ غليظُ المشافر

وكإطلاق الجحفلة على شفة الإِنسان (وهي للخيل والبغال والحمير) في قول النابغة يهجو لبيد بن ربيعة:
ألا من مبلغٌ عني لبيدا ** أبا الورداء جحْفلة الأتان

والوسم للإبل ونحوها، جعل سِمة لها أنها من مملوكات القبيلة أو المالك المعيّن.
فالمعنى: سنعامله معاملة يُعرف بها أنه عبدُنا وأنه لا يغني عنه ماله وولده منا شيئا.
فالوسم: تمثيل تتبعه كناية عن التمكن منه وإظهار عجزه.
وأصل (نسمه) نوْسِمه مثل: يعِد ويصِل.
وذِكر الخرطوم فيه جمع بين التشويه والإِهانة فإن الوسم يقتضي التمكن وكونه في الوجه إذلالا وإهانة، وكونه على الأنف أشد إذلالا، والتعبير عن الأنف بالخرطوم تشويه، والضرب والوسم ونحوهما على الأنف كناية عن قوة التمكن وتمام الغلبة وعجز صاحب الأنف عن المقاومة لأن الأنف أبرز ما في الوجه وهو مجرى النفس، ولذلك غلب ذكر الأنف في التعبير عن إظهار العزة في قولهم: شمخ بأنفه، وهُو أشمّ الأنف، وهُم شمّ العرانين، وعبر عن ظهور الذلة والاستكانة بكسر الأنف، وجدْعِه، ووقوعه في التراب في قولهم: رغِم أنفه، وعلى رغْم أنفه، قال جرير:
لما وضعْت على الفرزدق ميسمي ** وعلى البعيث جدعْتُ أنف الأخطل

ومُعظم المفسرين على أن المعنيّ بهذا الوعيد هو الوليد بن المغيرة.
وقال أبو مسلم الأصفهاني في تفسيره قوله: {سنسمه على الخرطوم} هو ما ابتلاه الله به في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار.
يريد: ما نالهم يوم بدر وما بعده إلى فتح مكة.
وعن ابن عباس معنى {سنسمه على الخرطوم} سنخطمه بالسيف قال: وقد خُطم الذي نزلت فيه بالسيف يوم بدر فلم يزل مخطوما إلى أن مات ولم يعيّن ابن عباس من هو.
وقد كانوا إذا ضربوا بالسيوف قصدوا الوجوه والرؤوس.
قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر لعمر بن الخطاب لما بلغه قول أبي حذيفة لئن لقيتُ العباس لألجمنّه السيف، فقال رسول الله: «يا أبا حفص أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟».
وقيل هذا وعيد بتشويه أنفه يوم القيامة مثل قوله: {يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه} [آل عمران: 106] وجعل تشويهه يومئذٍ في أنفه لأنه إنما بالغ في عداوة الرسول والطعن في الدين بسبب الأنفة والكبرياء، وقد كان الأنف مظهر الكِبر ولذلك سمي الكِبر أنفة اشتقاقا من اسم الأنف فجعلت شوهته في مظهر آثار كبريائه. اهـ.